داخل حسن.. اسطورة الغناء الريفي

شارك مع أصدقائك

Loading

كاظم حسوني

وأغنيه يمه يا يمه..
الأغنية الآسرة التي تتجسد عندي دوما بملامح متفردة ، وقوام بالغ الرقة ، شديدة الحضور ، الطالعة من امكنة وازمنة بعيدة ، تلوح في مراياها قرى الجنوب ، الأكواخ ، وبيوت الطين ، وعبق رائحة الهور ، مختزلة تاريخ حكايات الانسان وعنائه من ظلم الاستبداد وانظمة الحكم ، اغنية بقدر ما تنسج قصتها من الماضي لاتكف عن الحضور حتى في لحظتنا المعاشة ، تنبجس من لب مشاعرنا لأنها مختزنة فينا ، اغنية يسري تأثيرها قوياً كلما فاض بنا الحزن (يمه يا يمه يغنيها داخل حسن ببحة صوته التي تذيب الحجر ) ، نلجأ اليها كلما تراكم الألم، للترويح عن النفس ، والتخفيف عن الاعباء ، يجتاحنا زخمها حين ينتابنا الالتياع والحنين (يمه يا يمه) وعند لحظات الفراق والضيق ، اغنيتي الشعبية الدامية بصوت المطرب البارع داخل حسن.. لعل صورها الاولى تخلقت لدي بالحانها المفعمة باللوعة من الماضي القريب ، ابتداء من مشهد الطفل في حجر أمه ، وهي تتأوه مهمومة بأغان يتقرح لها القلب ، عند الرحى الثقيلة الدائرة بين يديها ، في بيت الطين في احدى قرى الجنوب . تولول مهدهدة صغيرها ، وهي تطحن حبات القمح او الشعير والطفل يرقب عينيها الحزينتين الدامعتين ، يسمع تلوع قلبها المجروح في الليالي الكئيبة الموحشة ، بأنتظار زوجها الذي لايعود الا مع الفجر متعباً من اعمال السخرة في ارض (السركال) ، فيما الصغير يتطلع باشفاق لأمه ، يدرك وادي الحزن الذي ولد فيه ، ويتحسس حبات الدمع المتساقطة عليه من مآقيها قبل ان ينام ويغفو على النغم السائد ، الذي وجدت فيه حاجة بلا حدود لها للتنفيس عن آلامها ومخاوفها التي اطرت تراجيديا احزان البيت ، ، تلك الطقوس ، اقترنت بوعي الصغير منذ نعومته ، حيث يطيب لأمه ان تسرف بالليالي في الولولة بصوتها الباكي العطوف لتداوي اتعابها ، وتنقذ روحها ، وهي تروي دراما حكايات اسرتها الرازحة تحت نير القهر والعبودية . ومع مرور السنين يصبح التكيف لدى الفتى ، ثم الاقتناع الذي يصل الى الحب المتمثل بالحنين لسيرة الطفولة بأنثيالاتها شديدة الحضور بالأغاني ومواويل الريف ، وظلال الحياة وصورها المختلفة ، هنا تردد الأغنية بلا انقطاع ، ويمتزج لحنها عذبا بقصص لاعد لها لمعاناة الآباء والامهات الثكالى والزوجات المفجوعات ، مثلما تتغنى بها النسوة الفلاحات في خلواتهن بالفضاءات الفسيحة الخضر ، لبث الهموم ولوعات العشق ، او للتصبر من سأم عنائهن من ساعات النهارات الطويلة ، ويفعل مثلهن الفلاحون في المزارع ، او الرعاة في الأرض الخالية ، عند عودتهم الى قراهم البعيدة بأبقارهم ومواشيهم مع العتمة الهابطة . . اغنيتي بزخمها الهائل من الشجن (يمه يا يمه) بالصوت الشجي لداخل حسن ، اجد فيها راحتي ، فألجأ الى البوح لنفسي والاعتراف ، استحضر الاشياء الحميمة لأنها تخفف ، وتشفي ، وتسكب السكينة في نفسي ، فأحتفظ بها كالقية غالية . اغنيتي ترجمة حقيقية لينبوع الحزن ، وتراكمات العناء والجور الذي لحق بالانسان في هذا البلد منذ القدم ، اغنيتي تنهل من تلك العذابات ، ترجفني حيث اسمعها عاصفة من حنين ، وتأخذ بتلابيبي ، وتهيمن علي ، وتسحرني وترمي بي الى حيث الحزن، حزن العراق طوال التاريخ..
شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *