سيرة الماء والنار….   سماء الغياب الزرقاء         

شارك مع أصدقائك

Loading

نصير الشيخ

 

ــ مشهدية المكان تضعنا أمام نقطة صفرية تتجلى فيها الذات الإنسانية وهي تتأمل شبح المجهول وسط طريقٍ طويل يصلها لصفحات الغياب،ولأن هذه الذات هي روح وبصيرة وفكرة لفنان مزج الحياة باللون ليغادرها نحو نقاء الزرقة .

” في يوم شتائي قارص،بينما كنا نتناول فطورنا،كان رافع جالساً في مكانه المواجه للشباك العريض المطل على الوادي يسرح بعينيه في الفضاء الرحب، قال : انظري الى السماء..ما أنقى زرقتها.

بعد هذا الغياب كيف يمكن أن نملآ هذا الفراغ المهيب الذي تركه غياب من نحب.وما الكتابة عن الفقد الا تدوين لمسيرة حياة تبدأ ولا تنتهي ربما،وهي تأكيد وجودي لعدم محو الأثر.هكذا مفاتيح تأخذنا لدهشتها وعذوبتها السيرة التدوينية (( أنا ورافع الناصري…سيرة الماء والنار)) والتي كتبت برشاقة وإحساس شاعرة، وقلم أمرأة متبصرةٍ في عالم الجمال وفنونه،تلكم هي ” مي مظفر”.حيث يلتقي عند إحساس المرأة/ الشاعرة/ الأنثى وطاقاتها المتوهجة مع روح وفكرواصابع صانعة للجمال ذلك هوالفنان التشكيلي ” رافع الناصري”، فحقاُ كانت قيامة اللون والحرف في محراب قدسي تكلل في رفقة عمرطويل أضحى شاهداً على زمن مضئ من تاريخ الفن التشكيلي العراقي .

أننا لانعيد تدوين تاريخية العلاقة بين رافع ومي،إنما نستقرئ نوع العلاقة واشتباكها الحر مع الحياة ومفاصلها،ومع روح الفن وجدوى الكتابة،ومن ثم يتكشف لنا روح التواصل المبهر بينهما،في جدلية يبلغ منسوبها الى اعلى حد كلما توالت السنوات وتعمقت أفاق الفهم المشترك.حد تسامي روحيهما في منظومة الفن والجمال ومن ثم النزول لعيش حياة عراقية بكل تفاصيلها كثيمة واقعية تختبرُصبرهما ومن ثم تبدأمنها نقطة انطلاق لإدامة زخم حياةٍ مشتركة .

(( أستعيد صورة رافع فأجده يرافقني الآن بوجهه الطفولي المشرق والابتسامة المترددةوما تستبطنه من قلق وفضول لمعرفة ما كان يدور بخاطري وأنا امام أعماله)) ص24.

الحياة تعاش بكل مقاديرها ووقائعها،ولكن كيف لنا الإمساك بجمرة الحب وادامتهِ كقيمة إنسانية داخل كيان هذه العلاقة المشتركة مابين رسام وشاعرة.فهل لنا الأمساك بهذا الفيض الشعوري المعاش لحظتها والأحتفاظ بكل هذا الوهج الذي يأخذنا حد الأسطرة.ومن ثم الانتقال الى الكتابة عبرسيرها الخطي ليتكون الكتاب الذي بين أيدينا، صيغةً تدوينيةً مبوبةً ” يوميات/ مذكرات/ رسائل/ صور..” وهذا مايجعل منه توثيقاً تاريخياً حتى نظراً لجهوزية ما توافرَمن مادة خام كان الفنان الراحل رافع الناصري حريصاً على توثيق كل شيء، بل ((مولعاً بتوثيق تجربته الفنية والاحتفاظ بشواهد لمرحلته بدءً من معهد الفنون الجميلة الى آخر سنة من حياته،ولديه توثيق فو توغرافي مذهل أينما حل وارتحل فهو يحتفظ بدفاترصغيرة وكبيرة يدون فيها خواطرهِ ونصوصه الأدبية الشعرية وأفكاره البصرية)) ص13.

ــ يولد الحب من تراسل حواسٍ لذاتين متفردتين،ويكون المكان في هذه المذكرات حيز الوجود العيني لهذا التراسل،ومقر جمعية التشكيليين العراقيين في بغداد بداية السبعينات محيط هذا اللقاء بين ذاتين تبغيان بلوغ شيء مراد ((فالرجل الذي طالما أوحى لي بالصمت وقلما تكلم تدفق بالكلام معي بلا قيود.كان روحاً تتمرد على كل ما يعيق انطلاقهُ بما فيها العواطف التي يراها قيداً بالآخرأياً كان )) ص31.

تتوالى فصول الكتاب،نضوج التجربة الفنية بصيغتها التشكيلية لدى رافع الناصري حضوراً متوالياً ومشاركات قيمة وواسعة في كل مدن العالم.وتكبرشيئا فشيئاً بلاغة الكتابة شعراً لدى مي مظفر متساوقة مع قدرتها العالية على الترجمة وثقافتها الواسعة بالأنفتاح على الفنون المعاصرة البصرية والموسيقية واكتشافها هذا التعالق الجمالي بينهم. هذا الانسجام الروحي بينهما المستند الى فهم مشتركٍ في كل تفاصيل الحياة والمعيش والوقائع أتاح لهما حرية التنقل والسفرالى افاق رحبة عبر عواصم العالم ومدنه،سواء لاكتشاف عناصر الجمال في الطبيعة والكاليرات او المتاحف، أوللتزود أكثرمن المعارف وترسيخ التجربة الفنية وخاصة لرافع الذي لايكل جهده في البحث والعمل جاداً في الورش الفنية ومن ثم المشاركة في المعارض التشكيلية.

ولأن ثمة مثلا يقول ” الأزهار الجميلة لاتعمرطويلا” فاللحياة عتبة أولى تحمل مباهج من نوع اخرلها مسارها الخطي الذي ينتهي بلوحة الغياب  في نيسان      بدأ رافع يشكو من أعراض مؤلمة في جسمه أقلقته” وكذا يبدو ان اليد الحاملة قلمها وريشتها لترسم وتلون وتطبع قد تسلل اليها الخدر!! لتندفع الألأم الى مكامن جسد الفنان وسط حيرة شريكة حياته وهي تقف في ذهول أمام هذه اللحظة الصفرية التي تُخرسُ الصرخة وتذيب الإحساس وتكتم الكتابة.

وهكذا يغادر رافع الناصري مشغلهُ الأرضي ويترك أوراقه وتخطيطاته كما هي على منضدة الكتابة،متسامياً نحو سماءٍ عليةٍ كان يرقب زرقتها ذات مساء خريفي.” في السابعة من صباح السبت السابع من كانون الأول أغمض رافع عينيه ورحل”..ذلكم هو الغياب السرمدي الذي يبقي على هذه الأرض ماتناثرمن لُقى تشيرالى هذا الوجود الراحل ” طوال فترة مرضه لم تفارقه البسمة على شفتيه ولم يشتكِ قط “..لتظل الإنسانة/ الكاتبة/ رفيقة الحياة ترقب ذلك الوسيم الفنان وتتابع خطواته حتى توارى في عمق الغابة ذات حلمٍ،هناك عند غابات الآرزوكأنه باحث أبداً عن عشبة خلوده..” فلم أجد له أثر،بقيت انادي وأنادي فلا أسمع الآ صوتي يتبدد في الفضاء”.

& مي مظفر/ أنا ورافع الناصري / سيرة الماء والنار

المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ ط1 ــ2021.

شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *