العودة ثانية إلى بغداد الأزل

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

كنت أستنشق الهواء خارج مطار بغداد، بعد أن ضاق صدري من إجراءات مرهقة للحصول على إذن الدخول إلى “بلدي”. فقد رفض موظف الجوازات هويتي للأحوال الشخصية وجواز ابنتي العراقي، لأنهما قديمان على حدّ قوله، وعلىّ في هذه الحالة، دفع الفيزا كأي أجنبية.
ومع أن لديّ ما يكفي ويستر المفاجأت التي تعوّدت عليها من العراق، مذ قذفني الرب في هذه البقعة الفردكيشية، غير أن كآبة عصفت بي وأنا أدفع الثمانين دولاراً، ومثلها لابنتي نهار، وهو أكبر مبلغ دفعته في أيّ مطار حللت فيه. عرف الموظف الأول سرّنا، نحن نساء قادمات من الخارج، وعليه أن يخيفنا كي يؤدي واجبه “المقدس”. نبرّ بقوة وبعبوس وهو ينظر لدليل عراقيتنا : ما هذا لن تستطيعوا الدخول بهذه الأوراق التي انتهى زمنها، وأضاف كي يزيد رعبنا “يمكن حتي ما تخرجون..!! أذهبوا لدفع الفيزا”. طبعا هذه اللهجة القوية، ذكرّتني بطريقة إخافة الأطفال حين ترفع سقف الطنطل كي يتأدبوا، وإلا كيف للمطار أن يبتلعنا بحجة عدم دفعنا الفيزا . استلمتنا مجموعة الفيزا وهم شباب قرويون كما يبدو من ملامحهم وسمرتهم، بعضهم يتجول خارج الطاولة، بدأت خيالاتي ترحل عن طبيعة أعمالهم قبل الانتماء إلى أحزاب السلطة، حيث أشعرونا أن الانتظار سيطول، ولكنهم بعد مشاورات قليلة بينهم، استلموا المبلغ وختموا على الجوازات دون أن نحصل منهم وصولات لما دفعنا . وأنا التي جلت بلداناً، وركبت بحاراً، لم أصادف من يستلم مبلغاً مثل هذا، وفي مطار دولي دون أن يُمنح وصلاً رسمياً. وهكذا فعل ببساطة موظف المطار في عمان التي قدمنا عبرها إلى بغداد، فقد سلمنا وصل الفيزا قبل مغادرة المكان، وثمنها لا يتجاوز نصف المبلغ الذي دفعناه في العراق . خفت أن أطلب منهم ورقة الاستلام، كي لا أطرد من العراق أو أذهب إلى مكان مجهول، فهناك ما حرّك مزاجي السوداوي على نصيب العراقيين من السلطات، فكل واحدة تستنسخ الأخرى كي تترك ميسمها الجارح على روح العراقي. لعل الناس في العراق تتساوى في حيازتها الفضاء الذي تحتله، فالمواطنة تسقط بالتقادم، ولا شفاعة لمن كان خارج السرب.
غير ان مطار بغداد بدّل مزاجي فهو الآن مرتب وواسع وتتوفر فيه خدمات جيدة، وأهم ما فيه، مكان للاغتسال نظيف ورائحته عطرة، ومثله جامع للصلاة لمن هو على سفرٍ، او للموظفين ربما.
كان المطر قد أزال الغبار الذي ملأ سماء العراق، ولكن الصورة التي قابلتني لحظة الخروج تعلن عن هوية العراق العسكرية، فهي لأبي مهدي المهندس ورفيقه قاسم سليماني، فبدأت أعود إلى مفارقة هذا البلد، بين تلك الحياة الأميركية التي تجدها في لافتات الدعاية المنتشرة في المطار، ولمختلف الماركات العالمية، وشفاه النساء وخدودهن المنفوخة، وبين سلطته التي تصّر على ارتداء الكاكي. حمدت الله على نعمة الحرية التي أعلن فيها خوفي من نظرة شزرة يرمقني فيها أبو مهدي المهندس، فلو قلت هذا عن صدام حسين لالتحقت بموكب المساكين الذين يسمونهم شهداء. ولكن ابنتي كانت تضغط على يدي كي أسكت ولا أسخر من تلك العيون التي في طرفها شزر، رغم ان سائق التكسي اتفق مع ما أقول، فابنتي شبعت من قصص الخوف والاغتيالات التي تترجمها منذ زمن طويل.
بغداد لها مراياها السحرية، فقد سكنا فندقاً غالي الثمن لميزانيتنا، جد نظيف ومرتّب في العرصات، ولكن ما أن تخرج منه حتى يصدمك رصيف يرتفع عن الشارع على نحو مبالغ به، وانا الذي وقعت في المترو قبل أسبوع من زيارتي، وتضررت اقدامي ومشيتي، تذكرت فيلما طريفاً اسمه لا مكان للمسنين، فقد تخيلت شيخاً أو عجوزا تخطو بعكازتها أو بكرسيها المدولب وكيف عليها ممارسة رياضة الطفر العالي على أرصفة العراق العظيم. الحكمة تقول : السلطة تخاف تجاوز السيارات على الأرصفة، وهذه حجة عجائبية في ظل نظام لا يستطيع تلبية أبسط احتياجات السير، بما فيها رقابة شرطة المرور في الشوارع ومهمتها لا تقتصر على تنظيم السير، بل معاقبة المتجاوزين عليه، فعندما يستلم المخالف مبلغاً عليه دفعه لن يكرر الخطأ.
هل جئت هنا للبحث عن عيوب مدينة أذهب إلى كل المدن كي لا أجد طريقي إليها. ربما.. بيني وبين بغداد ثمالة حبّ مجروح، كما لو كانت اللمسة الأولى التي مرت على وجهي في زمن موغل بالقدم، هناك حيث الأشياء تعيش براءتها الأولى، حين تخرج الفراشة من شرنقتها لتموت بصمت. أناشيد الحب لا تعزفها القيثارات للعائدين من الشتات، فقد ضاع موسى في صحراء أوهامه وغطت الرمال قصة تيهه الأولى. علينا أن نختلق حباً جديداً من نشيد الطفولة عن الأوطان التي نفديها بالأرواح، يا لسخرية تماثيلنا المجنّحة حين توشك على الطيران من منصات الكونكريت.
كنت أتجنب كآبتي التي رافقتني طوال العمر، وعليّ تعلم فن الرضى عن النفس وما تملكه، فكل الأوطان لم تستكمل بيانها في حياتي، هي أقرب إلى فكرة الخوف من الموت في صحارى الوحدة، حين يتشبث البدوي بسراب شجرات العاقول والحنظل. لدي في لندن شرفة صغيرة يقصدها عصفور دوري ، فاضع بمنفضة السكائر بعض حبات الأرز، فتنثرها الريح قبل ان يحاول التقاطها. هكذا هي فكرة الأرض الأولى ما أن تمر نسمة تزيح الستارة، حتى تطير مثل ريشة في الأعالي. ها انا أهمس في أذن ابنتي عن الكثير من الذين أصادفهم، هذا أعرفه فتصرخ بوجهي : مام كفي عن التذّكر .. كيف لي ان أنسى سعي الوصول إلى وطن أجهله، كل ما أقوله يتحول ضجيجاً يطرق رأسي، الشوارع والأسماء والروائح ، أنا هنا أقف خلف الستارة المواربة، حقيقة هذا الوطن التي أدركها في الصحو، وأره ينهض بهياكل البنايات الجميلة التي تشاد في كل مكان، بالوجوه المشرقة لشبابه وشاباته، رغم ان الفتيات اللواتي يتجولن في الشوارع لا يتجاوزن الربع من عدد الشباب، ولكن معرض الكتاب الذي التقيته دون موعد، كانت معظم الأكشاك فيه تديرها الفتيات.
سلطة الإسلام السياسي تعيش في صراع بين ما تريده للعراق وما يريد هو لنفسه، وما يريده الأميركان . لا أحد ينجو من المأزق، فالبلد يتشكل على القدوة الأميركية، كما تشكّل بعد الاحتلال البريطاني على الصيغة الانكليزية، هكذا الأمر في تاريخ كل الاحتلالات لبلدان الشرق. بضائع وماركات لكل الشركات الغربية واليابانية والصينية، ولابد ان تكون هناك قوة شرائية كي تغامر تلك الشركات في بلد لم يخرج بعد من حوادث العنف. لعل تجذّر الفروقات الطبقية يجري عند عتبة الفرصة الذهبية، فرصة بلد نفطي تفيض ثروته على احتياجاته، فهناك انعكاسات للسرعة التي صعدت فيها ” النخبة” الجديدة من جماهير وقادة الأحزاب الإسلامية عبر نهب الثروات وتوزيعها على مواليهم، فعمار الحكيم وحده استولى على عقارات كثيرة في الكرادة افضل موقع لطبقة الأثرياء الشيعة في السابق، مستفيداً من هجرة المسيحيين وأصحابها القدامى، والبهو الكبير الذي شيده يدل على عظمة ما يملك من ثروة وجاه. أما البقية فقد تقاسموا حصص العراق شيعة وسنة، فالقوانين يجري تكييفها كي تناسب ظرف الشعور بمحاصرة الوقت، أنهب وأهرب كي تتحول ثروتك إلى حقيقية ناجزة لن يزعزعها قانون أو عُرف وأخلاق. ومن هنا تبدأ المشكلة، فالدين يعني الأخلاق والقيم، فإذا تمظهر بالسرقة وتجاهل كفاءة صاحب المنصب ولياقته ، فالمواطن العادي أما أن يقّلد سلطته بالتزوير والتحايل، أو ينكفئ على نفسه ينتظر الفرصة للتعبير عن غضبه وفق صيغ مختلفة بما فيها العنف المنظّم، أو إهمال الوظيفة وانتهاز الفرصة لتفريغها من محتواها، وهكذا تجد المتظاهرين يطالبون بالتعينات في دوائر الحكومة لا في مكان آخر لأن الوظيفة تساوي البطالة المقنّعة، جيوش من العاطلين عن العمل يتقاضى كل واحد فيهم راتباً شهريا وهو يجلس على طاولته لتمضية الوقت. حركة الاحتجاج ولحسن الحظ، كان شعارها نريد وطنا، نريد دولة، وهي أكبر صحوة في عمر العراق، انتفاضة على عطالة السلطة السياسية وفسادها. لماذا بدأ الصدريون في إطلاق النار على المحتجين ببغداد، لأن مقتدى الصدر نفسه شعر بأن هناك جماهير خارج سيطرته، خارج قدسيته كوَليّ يقبّل الناس نعاله، فالجماهير الغاضبة لا يستطع كسبها وهو مشارك بالذي تحتج هذه الجماهير ضده. صيغة الاحتجاجات المبكّرة في العراق تم استيعاب قادتها وتفريغها، بالوسائل ذاتها بعد أن وصل اليأس حده، فانت ترى من كان يقود التظاهرات يتحول إلى صاحب نفوذ وامتيازات وينسى دوره السابق كالكلب الذي يطعم عظمة كي يسكت عن النباح. لعلها أفضل وسيلة لتهجين الناس وزرع اليأس بينهم، ففي النهاية لا يوجد من هو خارج المستنقع، فمناضلو رفحة يتقاضون رواتب الوزراء سواء كانوا في القطب الشمالي أو أصحاب مصالح وأطيان في المدن المقدسة. لهم الأسبقية لأنهم شيعة فقط هربوا مع من هرب بعد انتفاضة الجنوب، أما الذي يصدر الكتب عن التصوف والإسلام الشيعي المتسامح فهو متفرغ لزوجة بعمر ابنته وبيت مطل على بحر بيروت . أنت ترمي النرد على مائدة العراق كي تخسر أو تربح الرهان ، لابد أن تكون مقامراً من الطراز الذي لا يملّ اللعب في هذا الكون الفوضوي، في هذه البقعة التي تشعرك بالخسارات ، فثمة شيء ضائع تبحث عنه في أكوام هذه الفوضى الخلاقة على حد تعبير بول بريمر. كيف تجده وكل الإشارات حمراء ولا عبور للضفة الأخرى، حيث العراق الذي تعرفه، العراق الذي يراودك في المنامات هو غير العراق الذي تدركه. ذاكرة النهار والليل تعشو وانت ترى المقاهي التي ترتادها النساء وسراويل الجينز الضيقة ، يقول صديق ما عليكِ سوى الذهاب لهذه المقهى فستلتقين الأصدقاء كلهم دون موعد مسبق. أية سعادة ينالها القادم لبغداد وهو يرى الأصدقاء حوله يشعرونه بالتواصل والمحبة، يشعرونه بما لا يعرفه عن قيمة ما ينتج، فالكاتب في المنفى يخاطب أشباحاً، وهو كالحاطب في ليل لا يعرف من يقبل نتاجه ومن يرفضه. هذا الشاب العابر الذي لم يجلس صحبتنا، جلب كتاباً من مكتبة قريبة وطلب توقيعي، أشعرني بسعادة من ابتسمت له الدنيا بعد عبوس. إنك في وطنك ولك قراء يتابعون ما تكتب.
السعادات في العراق موقتة ولهذا يعب الناس منها حد الاختناق. الأضواء الجميلة والمولات التي تنتشر في بقع كثيرة، والأشرطة الملونة والمصابيح والنافورات، كلها قطوف دانية للناس في بلد يمكن ان يحتل شارعه ثلاثة رجال برشاشاتهم كي يصيبوا أهدفاً عشوائية ويقتلون أبرياء مروا بالصدفة، فالحياة ببغداد تعيش بالصدفة مثلما تأتي الثروة والجاه بالصدفة. وهذا ما حدث في يوم رحيلنا، فقد جرت محاولة اغتيال فخري كريم صاحب مؤسسة المدى ومنظم معرض الكتاب، كما قتلوا ثلاثة من الذين ساقتهم الصدفة إلى المكان الخطأ في شارع من الشوارع . يسجل البوليس تلك الحوادث ضد مجهول، فهو عليه ان يتوقف عند حدّ معين، كي لا يكتشف عصابة تعود إلى هذا الفصيل أو ذاك كما هي أفعال مافيات الجنوب الايطالي. لا تستطيع نسيان تلك القصص التي صاغتها الروايات وصنّاع السينما الأميركية العظيمة، سرجيو ليوني وكاوبولا وبرتلوتشي ومارلون براندو وهنري فوندا. لا شك أن أميركا سنت قوانين العراق الجديد وفق ذاكرتها الفنية، وهكذا هي بغداد كما صنعتها الأضواء الجديدة التي تعشي العيون، بغداد الأزل بين الجدّ والهزل.
All reactions:

You, نعمان المحسن, ريسان الخزعلي and 174 others

شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *