قصيدة من د. بطرس دلة إلى الأديبة دينا سليم

شارك مع أصدقائك

Loading

د. بطرس دلة / كفر ياسيف  شباط 2010

رأيتُكِ تخطرينَ وأنتِ نشوى    يزيدُ بحُسنِكِ بعضُ الثناء

وتبتسمينَ في عزٍّ وفخرٍ         ففي اللّماتِ أنتِ دواءُ دائي

تجيدينَ الحديثَ بكُلِّ جوٍّ      وليسَ يضيرُكِ بعضُ الرُّواءِ

عرفتُكِ بينَ كُتّابٍ عظامٍ       تُجَلِّلُكِ المهابَةُ في الرّداءِ

ويزهو فَنُّكِ نحو الثُرَيّا          وإسمُكِ لامِعٌ وإلى بقاءِ

وتحكينَ الظِباءَ بحُسنِ جيدٍ     وكُحلُ العينِ يحلو في اللقاءِ

كُلُّكِ في القلبِ حبٌّ لا يُضاهى    فأنتِ بحيّنا كلُّ الوفاء

مع خالص مودتي

ما كتبه عن رواية ” قلوب لمدن قلقة”.

هذه الرواية التي نحن بصددها، خرجت للمرة الأولى عن دار شمس/ القاهرة 2011، والطبعة الثانية صدرت سنة 2018 عن دار كيوان/ سوريا. وكانت الرواية الأولى ( الحلم المزدوج) 2004 دار العودة بيروت، صدرت قبل أن تهاجر دينا سليم حنحن إلى أستراليا، كنا قد عالجناها في حينه بمقال مطوّل من على صفحات صحيفة “الاتحاد” التي تصدر في حيفا.

بعد قراءة “قلوب لمدن قلقة” اتضح لنا أن الأديبة دينا إنما تحلق في عالم السرد والكتابة، تروي حكاية شخصية ما من طرف خفي، وفي نصوصها تشعرنا إنها إنما تكتب بأنوثة واضحة، وتعلن ثورتها على كل ما هو متعارف عليه في عالمها القديم وعالمها الجديد، عالمها القديم الذي عاشته في مدينتي اللد والرملة بعد الاقتران من كفر ياسيف، وعالمها الثاني الجديد في المهجر في القارة الأسترالية.

نجد إنها تشتعل قلقا كما مدنها التي زارتها فوجدت فيها قلوبا حائرة، قلقة، ومدنا حائرة قلقة، مع ذلك فانها لا تنسى انها امرأة في حوالي الخمسين، إلا أن قلبها ما يزال ينبض حبا، فتشتعل كما قلنا ألقا وصلوات متوهجة في محراب الحب، ولكن بدون ابتذال، إنها\ البطلة دالية، تلجأ للحبيب الذي اختارته، ولكن بواسطة الشبكة العنكبوتية، وعندما يرتعش قلبها وينبض حبا، يفيض شعرا خلال السرد النثري وتنسى أنها إنما تكتب رواية، فتكتب القصيدة، ولكن بروح شفافة تنم عما يعتمل داخلها من مشاعر الحزن والفرح، والضياع، لتنتقل إلى مشاعر الفرح، والبهجة، وحتى الوصال الجسدي مع من تحب، إنها إنما تشعر إنها  بعد الانفصال  انما استعادت حريتها التي كانت سليبة منها لتعيش حياتها بالعرض لا بالطول فقط!

ففي كل مدينة حلّت بها، كانت تجد قلقا كبيرا يسكن المدينة، في أحد المواقف نجدها تصرح قائلة: ” كلنا قلقون، حتى رمل الصحاري، وثلوج القطب الشمالي، والأحياء في أعماق البحار، وفي المدن يشعر الجميع أنهم قلقون”. تعيش البطلة في دوامة تكاد تقضي على كل أحلامها، لولا أنها حصلت على الوظيفة المناسبة، ولم تعد بحاجة الزوج الذي انفصلت عنه لتعيش حياتها حرة ومنطلقة، فإن كان قلبها يرتعش فيرتعش قلمها، فبداية الحياة على الكرة الأرضية قد بدأت بارتعاشة، أو دفقة من نور فتكوّن الكون، ولكن ارتعاشة قلم الأديبة دينا سليم حنحن في هذه الرواية صحبتها إيقاعات إنسانية عارمة، عبّرت عنها بالكلمات الرائعة، واللغة التي تبدو بسيطة في ظاهرها إلا أنها في باطنها تبدو لغة إبداع، وفن الكلمة الجميلة.

ولما هي امرأة ناضجة في الخمسين من عمرها، كما ذكرنا، فإن ذلك لم يمنعها من التعلق بـ”مودي” ابن الثلاثين، فتترنم معه على أنغام الموسيقى العالمية، مع تجليات المحبة الحقيقية، ولكن عبر الشبكة العنكبوتية فقط.

ليس لدينا شك أن كتابة الرواية هي من أصعب فنون الكتابة، وذلك لكثرة شخوصها من جهة، وتشعب الأحداث فيها من جهة أخرى، ولأن تجميع الشخصيات، وإدخال الأفكار الفلسفية على ألْسِنة الشخصيات يتطلب الكثير من الحذر والوعي، والاهتمام بدقة التفاصيل التي قد ترد متناقضة فيما بينها بسبب كثرتها، ثم أن كاتب الرواية يجب أن يكون دارسا للعديد من الروايات ويعرف كيف يدخل آراءه الفلسفية بشكل عفوي أحيانا، حتى لو اضطره الأمر إلى ادخال شخصية جديدة أثناء سير العمل الابداعي الروائي.

تحاول دينا سليم في هذه الرواية إثارة دهشتنا لعالمها الجديد، الغريب، قبل أن تثير عواطفنا حتى في السرد الايروطي أحيانا، إنها تكتب عن خلفية قاسية، وتجربة عنيفة مرت بها، لكن بلغة مرصعة بالتعابير الجميلة والأحاسيس الفياضة، هكذا رأيناها تُدخل شخصيات عديدة من حين لآخر، وتهتم بالسلوك الإنساني لمن يحيطون بها، وبفلسفة الكون كله، لذلك كان عليها أن تجمع كشفا كاملا للأسباب والمؤثرات التي أدت إلى خلق الأحداث، والتي بدورها قد تكون واقعية، إلا أنها روتها كما لو كانت جميعها من نسج الخيال، والحقيقة تقول: أن العمل الإبداعي يكون جيدا ومميزا بمقدار نجاح الكاتب في إغلاق الطريق على البوح ومنعه! والكاتب الناجح هو الذي يعرف كيف يعيد خلق نسق الأحداث وتغيير رواية النص متى شاء ذلك. عل الروائي الناجح أن يكون ضليعا بحركة الحياة والمجتمع متبحرا في متغيراتها، ولذلك فإن ما كتبته الأخت دينا سليم جاء قريبا من الإنسان والسكان، والحياة التي يعيشها أبطالها، وذلك يتأثر بأي حدث اجتماعي أو سياسي أو أي تعقيد، أو حياة صعبة. على الكاتب الروائي أن يكون متبحرا في زخرفات مجتمعه، ولديه لغة صالحة للكتابة، فلا يتأثر كثيرا بالأحداث الكثيرة، و/ أو الصغيرة والمعقدة التي مر بها، لأن لديه فلسفة خاصة، وقناعات، وأيديولوجيات واضحة المعالم، بعد ذلك يستطيع أن يعبّر عن الفرح والحزن، وعن المجتمع المزخرف والمجتمع غير المزخرف، كما يستطيع أن يعود إلى حياة الواقع الذي عاشه، فيبدع في إعادة نسق الأحداث مع بعض الخيال في فترة زمنية معينة وبطرق سردية تتناسب مع الزمكانية حسب رؤيته الفنية خلال السرد، هكذا تكتسب الرواية جمالا خاصا شريطة أن يكون الروائي ذا حس حضاري راق، ولغة فنية مميزة. إن تجربة دينا سليم في كتابة الرواية باتت تجربة غنية بعد أن كتبت ما كتبته من روايات، باتت لغتها غنية بالصور، والتعابير إلى جانب بعض المواقف التي أدخلت فيها فلسفتها في الحياة، مشيرة بذلك إلى ما مر عليها من معاناة خلال السنوات العشرين الماضية، إلى أن تحررت من سجن الزوجية، فإذا كانت قد تحدثت في هذه الرواية عن قلوب لمدن قلقة فذلك انعكاس لما كانت قد عانته في السنوات الأخيرة من قلق على مستقبلها إلى أن عرفت الهدوء الحقيقي، وضمنت حياة كريمة لها ولأولادها مع عظم المسؤولية عن هذه العائلة التي أعرفها عن قرب. وها هي تعترف، في حفل توقيع الرواية في القاهرة، وكنت من الحاضرين، تعترف أنها تعيش في زمن كثرت فيه التساؤلات، وازدادت الأحمال على أكتاف البشر، زمن تفشي الظلم، الألم، الخوف، الأخطاء.. ويبقى هاجس الكاتب، كيف يلقي التحية على الكاتب، وكيف يستطيع بلع القلق والحيرة بصمت.

تتابع الأخت دينا قولها: كيف يستطيع الكاتب الحفاظ على وجوده فانه يزداد قلقه الصامت مع كل شيء حوله وأولا مع نفسه، هذا هو المبدع الذي يرى العالم بعيون أخرى ويتمنى أن ينظر الآخر بعيون صادقة، ولأني تعلمت الصمت ولم أتقنه، ولأنني أحببتُ الحياة فإنني أشكر لحظات السعادة التي لا يستطيع الكاتب أن يطولها لأنه اعتاد دائما تدوين الحزن والأسى..لكن اليوم وفي هذه اللحظة يوم أتكشف من نفسي، وبلحظة صراحة أقول: أنا سعيدة جدا بينكم بعد مرور سنتين على البدء في كتابة هذه الرواية.

وتتابع القول: كانت أحلامي بسيطة، ولكنها كبرت معي كما هي أحلام كل واحد منا، لأنه بدون الحلم لا يمكن الاستمرار في الحياة”.

آراء ومواقف:

بعد قراءة هذه الرواية، عدت إلى بعض المواقف التي تجلت فيها عظمة الابداع وقوة السبك، والسرد، والفكر الفلسفي من خلال الحوارات في المواقف المختلفة.

فأول ما نذكره هو هروب المؤلفة من وطن الأم فلسطين إلى المنفى الاختياري بحجة حاجتها إلى الحرية، أما كان باستطاعتها بلوغ هذه الحرية في وطنها؟

الموقف الثاني هو تحول المؤلفة\ البطلة إلى شخصية يهودية تعاني حتى من كونها يهودية تزوجت من عربي فيرفضها قومها، وحتى ابنها لا يعترف ببنوته مما يحز في نفسها ويزيد حياتها تعقيدا على تعقيد!

والموقف الثالث هو إدخال عنصر الحب إلى جانب القلق في العلاقة الجدلية بين الرجل والمرأة، وبين الناس جميعا، الحب الذي تحتاجه هذه الأديبة المهجرة أو المهاجرة من أجل الإبقاء على جذوة الأمل في الحياة الجديدة والمتجددة، أو الحقيقة أن السيدة دينا سليم تجيد وصف مواقف العشق والحب بشكل ملفت للنظر، بالرغم مما تبديه من تحفظ لا يليق بالبطلة اليهودية داليا، ولما كنت أعرف موقف المرأة اليهودية من العلاقات الجدلية المذكورة، وحرية التصرف بالجسد لدرجة الإباحية أحيانا، فإن عنصر التحفظ بات سخيفا لأنها فيما بعد سوف تترك لنفسها العنان ، وتمارس العشق والجنس، فجسدها له حق عليها، ولأنها لا يمكن أن تترهبن خوفا من المجتمع الذكوري الذي تعيش بين ظهرانية، ليس كعربية بل كيهودية، هكذا نجدها وقد ضاق خلقها وازدادت عصبيتها، صرخت قائلة: أنا بلا كيان لأن الكيان الفلسطيني ليس قائما ولا مستقرا بعد.

دور شخصية الأب في هذه الرواية:

لسبب ما، تحاول الكاتبة دينا ذكر أبيها\ والد البطلة، في العديد من المناسبات خلال السرد الروائي، وهي إذ تذكره فإنما تذكره بإعجاب شديد، وذلك قد يكون محاولة منها للتعويض عن فقدانها الزوج الذي انفصلت عنه، إنها تحاول أن تظهر والدها بمظهر البطل الوطني القومي، المناضل من أجل حرية الوطن، لذلك فهي تؤكد (ص 63) أن والدها قد ألقي القبض عليه متلبسا بجريمة تنفيذ عملية تفجير حافلة في أحد شوارع المدن الرئيسية في اسرائيل، كانت الحافلة مليئة بالركاب، قتل منهم ستة أثناء عودتهم من العمل، والنتيجة كانت أنه حكم على والدها بالسجن المؤبد.

وتمّ اعتقال الوالدة أيضا بتهمة التعاون مع ” المخربين” وبات الجيران الابتعاد عن تلك العائلة، وعندما أطلق سراح الأم وجدت جميع الأبواب مغلقة في وجهها، وتبرأت منها عائلتها، فاضطر الوالدين الانفصال والطلاق، وبعد خروج الوالدة من السجن هاجرت إلى كندا.

وعندما يبلغ الجزن مداه، تتماهى مع والدها، تعيش بعيدة عنه، تكتب له ( ص 66) ” كنت أرى وجه والدي عبر الرسائل، شفافة أحاسيسه، أرى أنامله تخرج من بين السطور، تلمس شعري وتمسح دموعي، يطبطب على كتفي ويشجعني على الصمود، كما أحس دموعه السخية تجري بين أناملي…”.

الوطن مقابل الحب:

قلنا أن المؤلفة باتت تعاني من الفراغ لأنها بعيدة عن أرض الوطن، والابتعاد عن الوطن معناه اقتلاع الجذور، وهي كفلسطينية تحب أن تظل جذورها منغرسة عميقا في أرض الوطن، كهذا يكون صراخ الضمير يحثها أيضا على البقاء في الوطن لأنه في القلب. لكن في المقابل، يأتي الحب والعشق كمهرب من حب الوطن! فتكتب قصيدة رومانسية فيها الكثير من العواطف.

أخيرا أقول: عندما قرأت روايتها الأولى ” الحلم المزدوج” وجدت أن هذه الرواية تدور حول ثلاثة محاور، المحور الثاني محور الوحدة والغربة، كانتا توأمين، لأن الانسان الذي يعيش وحيدا منفردا عن الآخرين، منعزلا في بلد غير بلده، تكون حياته مقيتة ومزعجة، ولما كان صارم بطل رواية ” الحلم المزدوج” شاعرا حساسا، مرهف الحس، بحث عن فتاة أحلامه بين السطور، وبدأ يناجيها في قصائد ملتهبة، أما في رواية ” قلوب لمدن قلقة” تعود الكاتبة إلى التيم نفسه، العزلة والانفراد، والوحدة، مقابل لحل مشاكلها يقف الحب، (فهل كانت الأخت دينا تفكر بالهرب إلى أستراليا منذ كانت تكتب ” الحلم المزدوج”؟ وقبل الانفصال عن زوجها؟)

في صفحاتها التالية، تصل الكاتبة إلى ذروة العشق، فيتهيأ لها أن عشيقها يبادلها حبا بحب فتدخل في وصف دقيق لمشاعرهما في وضع ما يسبق الجماع من تماه وحب، لأنه حتى الأشياء الدقيقة تزيد الشوق والشبق زيادة كبيرة، فتعلن زواجها منه، وتقضي معه ليلة حمراء على رغم فارق السن بينهما، فهي ابنة الخمسين، وهو ابن الثلاثين، ولذلك فإن هذه العلاقة الجنسية يجب أن تكون بالحلال.

وتنتهي الرواية عندما تصرخ الكاتبة صوتا واحدا عاليا يحمل في طياته كل أمل في الحياة وهي تتلفظ اسم مدينة ” القدس”. مدينتها الضائعة منها، وتخشى من ضياعها بالفعل.

   

 

شارك مع أصدقائك