شــــعــريّـة الـكــائـنـات .. الـمـكـان جـســد الـمـتـعــة فـي الـشـــعــر ( من كتاب الناقد جبّار النجدي: ما لا يقوله النصّ / مقالات نقديّة

شارك مع أصدقائك

Loading

شــــعــريّـة الـكــائـنـات .. الـمـكـان جـســد الـمـتـعــة فـي الـشـــعــر

( من كتاب الناقد جبّار النجدي: ما لا يقوله النصّ / مقالات نقديّة

اِصدار دار الشؤون الثقافيّة العامّة – وزارة الثقافة – بغداد – الأعظميّة – حي تونس )

** * **

لعلّ أهم ما ينتظرنا من غرابة في مجاميع الشاعر عبدالله حسين جلاب شاعريته الموصولة بجدلية المرئيّ، في الشعر المنشطر إلى ذوات متصارعة، إذ يتحوّل الشعر إلى أثرٍ تخلّفهُ القطيعة بين الأشياء والكائنات وهو بذلك يشارك في تأسيس اتجاه شعري، يتضمّن نوعاً من التعارض المرئيّ لمشاهد الصراع في الطبيعة وأطرافها التي لا تعرف السلم والطمأنينة فيما بينها، وينكشف هذا الأمر حينما تدخل عين الشاعر دخولاً حرّاً في المرئيّات سعياً إلى تملّك النصوص دهشتها وانعطافاتها، عبر تكلّم الشعر من خلال المشهد لا اللغة .

إنّ الشعر في مجاميع الشاعر (عبد الله حسين جلاب) يحتفي بالأشياء ويتكلّم معها بوصفه كائناً مكانيّاً ،بإمكانه التكلّم بألسنتها المتعدّدة، ساعياً إلى إزاحة اللغة بأكملها، وهو في الوقت الذي لا يستبقي للّغة أي شيء، يتخذ بديلاً لغويّاً يتقن اللعب الشعري على العلامة وشفرات الكلام السيميائيّ. إنّ النصّ الشعريّ ينفي تركيبته اللغوية قاصداً شعريّة المشهد المكتنز بثراء لغة المرئيّ .

إن عدم جدوى التركيبات اللغوية هو الشيء المجدي في نصوص (عبدالله حسين جلاب) معتمداً اللغة التي يلزمها تعدي حدود نفسها، وهذا يعني أنّ الشعر متواصل مع الأمكنة وكائناتها من حيث هو منفصل عن اللغة وتركيباتها، ومتلمّساً أثر فعل الإنسان في محيطها، وإدامة الصلّة بما هو ضروري لاشتغالاته التي تتوجه إلى ما نراه وما نسمعه في خضمّ ما ينجم عن أزمات الطبيعة. إذن الأمر يتعلَّق بإنكار اللغة الذي هو مقدمة للاعتراف بلغة أخرى هي في حقيقة الأمر لغة المشهد المضمر في الأنساق المصطرعة الكائنات والأشياء والأمكنة، عاملاً بما له خاصية غير لغوية، محرِّكاً فاعليته المرئيّة عبر الانغمار في الصراع الهائل والأزليّ الذي لابدّ من أن ينتج نسقاً شعريّاً تسوده الحدّة وممكنات التضادّ، وما يتولّد عن حاجة النصّ، لعكس متخيّلات الصراع وأزليته، وإنّ ذلك ليشكّل بحدّ ذاته كائناً شعرياً مكانيّاً ملتقطاً دلالات فضاءات التصارع المتواصلة في الوجود. يجعلنا ننظر إلى النصّ الشعريّ من حيث هو صنيع الطبيعة واحتداماتها، ومشاهدها الخارقة، رغبة من الشاعر في الحصول على مرئيّات تحتمل النظر إلى تصادم الكائنات العنفيّ تهيم في التصوّرات السحرية المتجسّدة في المرئيّ والملموس. والحال أنّ النصوص تستحضر وجوه صراعات متداخلة في فضاء واسع لا متناهٍ، مسكون بكائنات غير محدّدة الأشكال والملامح، لكنّها مرئيّة بعين الشاعر اللاقطة تصل حتى التفاصيل المجهرية .

إنّ الشعر يمارس اللعب على جسد الطبيعة بأكملها وبما تضمره من تشوّهات وتشويهات واضحة، ومتناهية في الصغر، بإمكانها إنتاج معطيات تخييليّة تغرينا في التقدم بعيداً والتوغل في أعماق مجاهيلها .

إنّ النصوص الشعرية القصيرة لاسيّما في مجموعتي (خلاصات النساج) و (فاختة البحر) تنطوي على فعّاليات سحريّة تتجه إلى تفكيك التضامنات بين الأشياء وإظهار المرئيّ على وفق خيارات متعدّدة الأغراض والحدود :

بخطوطها التي تشبه الأمواج

المحارة تجسّد البحر

السماء وحدها

تحتفي بالأجنحة

الدرويش بقلادته الخضراء

مقطوع الرأس

في كرة الأولاد

عين الشمس

أرسم على ورقة الموز

حمامة ..

بحليب التين

اللقلق بجناحيه يمسح نصف الشمس

عربيد البئر

يحرس الوحشة

تكوّرت الرياح

في يدي .

إنّ من بين رهانات الشاعر الاشتغال على مضمرات ( الميثولوجيا) الشعبيّة والإعلان المرئيّ لمخبوءاتها الذي يحدث تارة في اللمح إلى المضمر في أنساق الحكايات الشعبيّة السرديّة وتارة أخرى عبر إشارات المعتقدات الشعبيّة الموجزة الضاربة في الخيال ولعلّ ذلك يجري في سلسلة من الإحالات التي تكرس اشتغالاتها على الأمكنة والأشياء والكائنات، وتخلع عليها صفات شعريّة مولدة معانيَ ودلالاتٍ تميّزها. على هذا النحو يتكوّن المشهد المرئيّ من قيمة التعارض، وهي سمة تتَّسم بها مجاميع الشاعر، وتحيد بها عن سمات غيرها، لاسيما أنّها لا ترسو على ضفاف شعريّة واحدة .

إنّ النصوص تمسك بالأفق كلّه، تكرّر أسماء الكائنات وتتسع سماواتها الحاضنة تضادّات صراعاتها الحافلة بالتحدي والاستلاب والألم :

دمعة النسر المخذول

تتدلى في الأفق

الصرخة التي أطلقها الصقر

وهو على صخرته

ما زالتْ تردّدها الفصول

اسمعْ صوت الرعد

يفيض على الأودية

النجم الفالت

يخرُّ رماداً في فم الأرض .

الشعر في هذه الحالة مكان عام لشتى الفعّاليّات التي تحدث في الفضاءات المرئيّة ولا تترك جملاً، بل جلُّ ما تتركه لمحات شيء مرئيّة، يخطف ويلمع ويمرّ بين تراكيب الأمكنة وكائناتها، هذه اللمحة التي تنتج (اللا جملة) ترسم ذاتها في حدقة عين ما ، تحسن التقاطاتها خارج التركيبات اللغوية، وتتحدَّث بلسان مرئيّ مغاير، يلحظه الشاعر بهذا البيت :

لا تكتبْ على ورق الأزمان ،

إلا بالبرق .

أو :

يقرأ البحر كلّه

من أجل اصطياد لؤلؤة يتيمة .

وبذلك تصبح مردودة اللحظة الشعرية المرئيّة بالعين انمحاء معنى تأتي به اللغة وإحلال معنى آخر يلتحم بوظائف الأذن والعين مأخوذاً بازدواجية السمع المرئيّ، بمعنى أنّ الشعر لا يكتب المعنى بقدر ما يكتب ما هو سمعيّ ومرئيّ .

إنّ السماوات والأرض والبحر والكائنات والأمكنة كلّها تمثل جسد المتعة في شعر (عبدالله حسين جلاب) الذي لا يبلغ منتهاهُ في سبر كثافة الأشياء وخرق مجهوليتها ، تلك هي انجازات الاشتغال الشعري اللا مستقرّ، حينما ينجز هذا الاشتغال توقفاً لِلّغةِ وحراكاً لِلُغةٍ أخرى تمثِّل (ميتا لغة) الطبيعة التي تتقدَّم لتصل إلى حافات مدياتها، هذه هي قيمة الشعر اللغوية الناجمة عن تحطيم قيمة لغويّة سبقتها وهي بهذه المراوحة في التحطيم تجمع ما بين التأكيد الآمن والعنف المتماسك قبالته، والقار في باطن الأشياء ومحيطها .

في هذه اللحظة يحضر الفعل الشعريّ مختبراً صدام الأشياء والكائنات وصراعاتها التي تدنيها من الشعر ومتعته مفكّكاً سكونيّة المألوف .

إنّ تعكّر الموجة في البحر ونتف ريش المخلوقات الطائرة وتطايره، وارتفاع ذرات الغبار من جراء اشتباكات عنيفة بين الكائنات، ما هو إلا دليل على صفاء المتعة الشعريّة في مجموعة (فاختة البحر) لتؤشّر اقتراب انتفاء الحاجة إلى بلاغة القول، فيتمّ استبدالها ببلاغة المرئيّ، وركوب المغامرة الشعريّة التي تعتمد على المشهد المتحرّك المتقاطع مع ما هو محايد .

هكذا يتنامى الفعل الشعري ليعاد تشكيل الطبيعة كي تسترد دهشتها ومضمراتها الشعريّة، ومحاولة إعادة تعريفها من جديد، ليتجلّى ما يمكن تسميته بـ (شعريّة الكائنات) المنشغلة بأشواط ماراثونيّة في صراعاتها القائمة على المنافسة ولفت الأنظار :

على ريح المجاهل فارش عينيه ..

يتحسّس حركة الكون

فينقضّ على ظلمته

موجة عالية في بحرها

أخرى متكسّرة على الصخر

وثالثة ملتحمة بالمحيطات

في الدخنة، ومن الرماد ..

شبح ،تعرفه، يطلع لملاقاتك :

يسلّمك الفانوس ..

في مجاهلها تستطيل العيون وتبرق الأشباح ..

انقضاضات سماوية وصراخات مبهمة

الشراع الذي لا يجلب العواصف

لا يعنيني .

إنّ المعنى الشعري يتحلّل تبعاً لتأثره بالظرف الأقرب إلى قوة الكائن الأدهى من بلاغة اللغة الشعريّة متفجراً في مشهدية اللحظة التي تسبق كلّ أوان لغويّ، إنّها التماعة خاطفة تسابق المرئيّ .

ومع أنّ المرئيّ القادم من ذاكرة الأشياء، يحضر تعويض ما يغيب من انساق لغويّة ، إلا أنَّهُ يدعونا إلى إعادة الاتصال بمعطيات الطبيعة وفهم تجلياتها، وزرع النسق الشعري في صراعاتها على صورة حراك مكانيّ ولود ومختلف وليس في متناول السائد من الشعر، إنّه نمط شعري ممتنع يكاد أن يكون عصيَّاً يصفه الشاعر بالقول :

خفيٌّ ،هُوَ، كوكبُ الشعرِ

ففكّر ،طويلاً، حتى تراه .

هذا الخفيّ يكون أكثر خفاءً في المرئيّ ولا تدركه إلا لغة الشعر المستندة إلى الرؤية النافذة واستبصارات المشاهدة بالغة الدقَّة .

 

شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *