التأملات الوجدانية في شعر نازك الملائكة .. أ.د. رائدة العامري

شارك مع أصدقائك

Loading

التأملات الوجدانية في شعر نازك الملائكة

أ.د. رائدة العامري

ارتبط الشعر بالتأمل لارتباطه بطبيعة الحياة المتكئة على قوة وعمق التجربة وسعة الثقافة التي تمزج بين التحولات والرؤية بتأمل الصراع بين الذات والآخر وحركة الوجدان، فالتأمل تتسع من خلاله دائرة التغيير التي يحدثها الزمن في النص ليحمل شكواه من قسوة الزمن عليه.

الشعر ممارسة جمالية إبداعية فنية ذاتية، تنطلق من الذات إلى الآخر، من وعي وشعور لتكوين المعرفة العميقة بمكنونات وماهية النص، وتعود إلى الذات بعمق الوعي الذاتي من خلال البحث عن آليات فهم النص، لتحقق الوعي المعرفي الأدبي والثقافي الذاتي من تجربة الشاعر الإبداعية ، فالعمل الإبداعي قادر على إبراز رؤية الشاعر داخل النص. ومن هؤلاء الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة التي أرست قواعد مشروع نقدي مميز، حفظت الريادة النقدية في مجال التنظير للشعر الحر نازك الملائكة، إذ شكلت من خلاله وعي الشاعرة النقدي. فعالم القصيدة خاص منفصل عن عالم الشاعر. وهذا يرتب ان يكون لها كيانها الخاص المنعزل عن المبدع ، وعلى مستوى التلقي يوجب قراءة تفصل بين النص ومبدعه، أو بين عالم القصيدة وعالم الشاعر(1). ذات رؤية وعينات وحقل اشتغال منعزلة عن بعضها لتجسد فردية المتلقي/ الآخر وخصوصيته, والربط بين النص والمتلقي، ويسلك اتجاهات متعاكسة يغذي أحدها الآخر، ويربط بين الشاعر والجمهور الاستهلاكي (2).

النص كسب معنى جديدا تتفاعل أطرافه، ليشكل تشكيلا جديدا مغايراً للمعنى التقليدي، يقودنا لمعرفة نفسية الشاعرة ومدى ارتباطها بالعالم الخارجي. وهي تتلقى الكثير من الإيحاءات التي تخاطب بها وجدان المتلقي من حركات نفسية وحسية، تحمل الكثير من الرمز والإيحاء المحسوس في شعرها لما تعتنقه من أحاسيس وقيم وأفكار برؤيتها للأشياء رؤية ذاتية تحمل فلسفتها في الحياة، باختلاجات واضطراب، ومعاناة داخليه بمفاهيم خاصة غير مباشرة وبلغة شعرية تتخطى حدود المألوف، ووعي فكري مبتكر يصل للمتلقي بتمثلات لصور جزئية ، تكوِّن لوحات كبرى تتنوع بها المفاهيم المعنوية وانسنة للأشياء. إذ يلتقط النص بذوره من موجات الحزن والقلق التي تصرح وتعبر عن حسرتها فجعلت من الحياة أنسانا تأخذ الأشياء بقوة الذات فيصل للمتلقي بقناعة ان الحزن رفيق الحياة, ويظل النص أسير اللحظة في السياق بتمثلات الغربة والاغتراب واللهفة المفرطة وتأملات بين الأمكنة والأزمنة العابرة، التي سكنت الذات حاضرة بانعكاساتها الوجودية ذات بعد نسقي مترابط داخليا ، بمكونات نصية تحمل في طياتها بعداً تأملياً.

تتمحور ثيمة الحزن في شعر نازك كظاهرة فكرية ترتكز على مواقف ذات فلسفات محددة، تحمل عمق القيم التعبيرية والرؤية الدلالية التي يمتاز بها النص وأعلى مناقب تقنية الخطاب الداخلي والخارجي الذي  يملك مؤثراته في التكوين الاجتماعي والثقافي، كلغز مركب ومعقد من أفاق وتجليات كثيرة ،تتردد مكنوناته هاجسا في سبر أغوار النفس.

وقد عبَّرت الشاعرة في النص الشعري عن الإحساس العميق بالأسى وإبراز العواطف الرومانسية تتضح في نصوصها وتدخل من ذلك الحزن فرصة لبيان أبعاد فكرتها عن الحياة، تاركة وراءها فراغا كبيرا تحتاج أن يُملأ، كونها تشعر بوحدة الهدف والمصير. إذ تفاعلت مع آهات التوجع والأنين التي يرددها الآخر, وقد اتخذت من القطار في قصيدة (مرّ القطار) ثيمه للتعبير عن حركة ثقافية اجتماعية ووجدانية ملازمة للذات والآخر. الشاعرة لا تلبث أن تتحول من مشهد  وصفي إلى شكوى حائرة مغلفة،بغيوم الأسى والضياع. إذ تقول:

مرّ القطار

الليل ممتدّ السكون إلى المدى

لا شيء يقطعه سوى صوت بليد

لحمامة حيرى وكلب ينبح النجم البعيد ,

والساعة البلهاء تلتهم الغدا

وهناك في بعض الجهات

مرّ القطار(3)

اتخذت الشاعرة من الزمن رمزا لقضية الصراع بين الذات والآخر، فكان إحساسها بحركة الزمن عميقا، تربط ربطا محكما مسجلا الانفعالات والاهتزازات النفسية, وضمنت كلمات مختلفة الدلالة عن تجربة الآخر مع الزمن ، إلا أنها لم تستخدم في معانيها المباشرة ، إنما كانت توظف ذلك للدلالة على تتابع الزمن في رحلة القطار، بتأمل في هذه الرحلة الهموم التي سلبها الإحساس بالوجود.

تلك  قوة مميزة لها وجودها المستقل الذي يقابل الوجود الإنساني بصراع دائم وانعكاس لمشاعر الحزن والأسى، ففجرت شعرا وجدانيا متفاعلا يتغنى بالآلام الذاتية والأزمات وانعكاساتها. ولتعبر عن روح المشاعر بالإحساس الصادق عن عواطفها الذاتية وزفراتها الوجدانية، التي أصبحت درعا لحظة تأمل برسم التفاصيل الحسية عن انفعالاتها، لتحول حركة الزمن وتشير إلى حلقه في سلسله من الألم التي يمارسها الزمن على الذات والآخر فربطتها بالماضي، لأن النص مركزه الروح والخيال الذي يقتضي ماهيتها الجمال.

في النص لوحات فنية مؤثرة تصور القلق الغريب في رؤية الليل، فتقذفه في الغربة ببعد عميق، فضلا عن  وصفٍ لترحال بعيد ببطء الزمن عن الذات، واستغراق في الهواجس.وعن ظمأ حقيقي يطاردها بحثا عن الاستقرار ورغبة جامحة في الإخلاد إلى السكينة ،  كما يتسم النص بعمق وجداني وبجمال التصوير للآخر تتهالك نفسه شوقا بالحزن والتفرد. واللوعات لصور تطاول الليل والأرق من خلال الإحساس المثير، الذي جاء معادلا للغربة نفسها ، وما تكابده من ألم يتسم بالسكون، مستثمرة الكيان الرمزي لمرور القطار وعجلاته المتسارعة، إذ تقول:

عجلاته غزلت رجاء بتّ انتظر النهار

من أجله.. مرّ القطار

وخبا بعيدا في السكون

خلف التلال النائيات

لم يبق في نفسي سوى رجع وهون

وأنا أحدّق في النجوم الحالمات

أتخيل العربات والصفّ الطويل

من ساهرين ومتعبين

أتخيل الليل الثقيل

في أعين سئمت وجوه الراكبين

لم يبق في نفسي سوى رجع وهون (4)

يقدم  النص جواً عاطفياً  تعاقبت فيه الألفاظ ذات إيحاءات ودلالات وجدانية  ونفسية متداخلة على  نغم حزين وإيقاع متموج، ومما يؤكد الإحساس بالمعاناة من خلال تغيير حركة الزمن في تباين صور الماضي والحاضر الذي ابتعدت عنه وبخلت عليه حتى في الخيال. إذ يبدو الليل رمزا استخدمته للتعبير عن تجربة لم تفصح عنها بشكل صريح مباشر، فجاءت غير مقصودة بذاتها. وما تخلله من استفهام يعبر عن مشاعر هذا الألم ومخاوفه على الرغم من ذلك، فإن الشاعرة تاركة حالة من التساؤل الدائم. وتظل تردد السؤال  المتكرر في النص ، تحرص على أنه واجب ينبغي تأديته، وكأن الشاعرة تفترض فيه البقاء. لأنه مازال يقاوم التجدد وانبعاث الحياة.

تتغنى بالألم الذاتي لتحمل في فحواه الهموم ، فيكون  النص وثيق الصلة شديد الترابط بين الذات الداخلية للأنا ،والذات الخارجية للآخر ،لتعالج قضايا اجتماعية دون أن يخفى الجانب الذاتي.

إذ انها تقترب لواقع أكثر عمقا وأشد وعيا ، فحركة النص اكتسبت تقنيات التعبير المناسب للألم.وفرض آليات بديله لتخرج من جوف التقليد وتنفلت بخيطها من زمام التيار المتقيد، فهذا التحول ناتج من الإحساس بعنصر الزمن. وربما من طبيعة الوجدان الحافلة بالأحداث ، كون النص الوجداني حقل خصب بهذا الإحساس يقع في الدائرة المغلقة لوقت طويل. وينغلق ثم لا يلبث أن  يجد نفسه مجبرا على الحركة والانتقال، فهذا التغيير في المشاعر القوية تمكّنه من تحسس ملامح الذات في مختلف تشكيلاتها ،لترسم طبيعة الفضاء التعبيري الذي يلائم الوجدان والفكر.

التنقل المستمر في النص ، يولّد في نفس المتلقي شعوراً طاغياً بغربة الذات حيث  يبتعد ذلك الشعور، ويفتقد المستقر الذي يأوي إليه و يطمئن فيه و يجد راحة النفس معه. لذا ولدت تجربة الألم والهوان في النفس. وسلبت الإحساس بجمال مجسد، لم تكن مكانية فقط بل تولّد الإحساس من عدم الانسجام والتوافق مع من حوله بتقلب لا يعرف الاستقرار. وذلك جعل الشاعرة تطيل الوقوف على المعاني، وتأمل التغيير الذي يحدثه الزمن في الآخر، وبالتالي جعلت النص رصداً للتغيير والتحول من خلال الألفاظ الدالة والموحية التي أسقطتها في النص. إذ تقول:

في ضوء مصباح القطار الباهت

سئمت مراقبة الظلام الصامت

أتصوّر الضجر المرير

في أنفس ملّت وأتعبها الصفير

هي والحقائب في انتظار

هي والحقائب تحت أكداس الغبار

تغفو دقائق ثم يوقظها القطار

ويطلّ بعض الراكبين

متثائبا , نعسان , في كسل يحدّق في القفار

ويعود ينظر في وجوه الآخرين

في أوجه الغرباء يجمعهم قطار(5)

يتكشف في  النص الحزن الذي سببه الألم بعد اتخاذ الشاعرة رمز  حركة القطار والركاب النازلين أو الصاعدين بتفاوت زمني. ووصفت الشاعرة حالة الحزن كشحنات نفسيه لمواجهة الواقع وتبريرات خيالية في مواجهة تجربة الألم بألفاظ الأسى(6)، وهذه الدلالات تحمل أبعاداً لاتجاهات سلوكية عميقة الدلالة، في أغوار الإحساس التي بثتها الشاعرة في ثنايا النص من جانب، والتوظيف الجمالي لها في النص من جانب آخر.

ولعل استخدام الشاعرة لهذه الثيمة من أجل عمق دلالة الألفاظ في النفس وبعث إثارة المتلقي بإحساس جمالي ذي قيمة انفعالية وتأثيرية وإيحائية تملك أنساقاً تعبيرية دلالية، بإيحاءات الحزن والألم ورقة البوح ،وهذه أيقونة ميزة مميزة في شعر الرومانسيين.

فحضور الذات/ الآخر في الشعر، وحضور الشعر لدى الذات / الآخر، سمة شملت عمقاً يتجسد كعامل فاعل ومنتج لعلاقة مترابطة بعمق تأويلي في نسق وخيال  جوهري، ينسج خيوطه من مكنونات الواقع، ليشكل رؤية تبحر في سبر أغوار هذا الواقع وأبعاده الاجتماعية الثقافية والأدبية وعمق الإحساس بالنص.

وقد كان مستهل القصيدة يحمل  منحى التعبير المباشر، في تصوير انقلاب الزمن وظلمة المكان، ولم تكد الشاعرة تنتهي من ذلك حتى ذهبت تصور ما أصاب المشهد، معبرة عن ذهولها لمشاهد القطار وهو يغادر ربوعه ويجلو عن دياره ، إذ يحمل النص الأنا، فخاطبت به الشاعرة بخطاب مملوء بالشجن من خلال المفارقة بين الذات التي عاشت في ربوعها، والذات التي وظفتها في النص، بلغة سردية تصور أجزاء من هذا الواقع. وتصور الأحزان والمؤثرات العاطفية.

يعبّر النص عن حضور عميق شديد الاحتدام بحركة الزمن إلى الفناء، حيث تغدو كل حركة من حركاته رحلة طويلة بعيدة.

لا شك أن ثقافة نازك الملائكة  بكل مقوماتها الأدبية والفكرية والجمالية وقراءاتها للشعر الرومانسي  العربي والأجنبي، قد أثرت في تحديد ثقافة هذه الفترة ، وأسهمت في تنويع الروافد التي استقت منها الشاعرة ثقافتها، وفي إثراء اتجاهات هذه الثقافة التي توجتها بالدعوة إلى ما أسمته (الشعر الحر) وتابعها في كتابته الكثيرون.

 

 

الهوامش:

(1) ينظر: نقد الحداثة قراءات استعادية في الخطاب النقدي وتنويعاته المعاصرة: د.حاتم الصكر،54.

(2) ينظر: الشعر والتلقي: علي جعفر العلاق: 63.

(3) ديوان نازك الملائكة ، المجلد الثاني، دار العودة  بيروت، الطبعة الثانية،60، 1979.

(4) ديوان :62.

(5) ديوان:63.

(6) لغة الشعر العراقي الحديث: السعيد الورقي: 256

 

المصادر

ديوان نازك الملائكة : المجلد الثاني، دار العودة بيروت، الطبعة الثانية،1979.

الشعر والتلقي: علي جعفر العلاق: دار الشروق، 1997.

لغة الشعر العراقي الحديث: السعيد بيومي الورقي، دار المعارف،ط2، 1983.

نقد الحداثة قراءات استعادية في الخطاب النقدي وتنويعاته المعاصرة : د.حاتم الصكر، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر،2019.

شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *