ذكرى سرگون بولص

شارك مع أصدقائك

Loading

 

فاطمة المحسن

توفي بولص ٢٢ أكتوبر العام ٢٠٠٧

سرگون بولص ظاهرة شعرية تتجاوز مناسبة القول، حتى موته بدا وكأنه رحلة انتقل فيها إلى عالمه السري الملئ بالشعر. ذاك أن لسرگون اعتبارات مع الحالة الأدبية بأكملها، فهو الحاضر الغائب في عالم الأدب العربي، وهو الذي ينتزع منه الناشرون قصائده وترجماته، في وقت يسعى فيه كبار الشعراء والكتاب إلى تسويق أنفسهم على نحو يخلو حتى من الثقة بمواهبهم. لعل من عرف هذا الشاعر يفهم سر انقطاعه عن العالم، فهو يعبر الحواجز كلها حين يسهر أو يجلس في موضعه، وكل حالة يذهب فيها إلى مدينة الشعر تتحول إلى رحلة مضنية للروح ومكابدة للعقل، قد لا تنتج نصاً مكتوباً ولكنها تستحضر الأكوان كلها مثلما يفعل عرّاف أور الذي كتب عنه سرگون.
من هنا تبدو صلته بعالم النشر واهية مثل صلته الغريبة مع الحياة والأدب بأكمله، فهو مثقف من طراز خاص، وقلة من الشعراء يصلون ما وصل إليه من معرفة واطلاع، ولكنه صعلوك من بقايا صعاليك العراق الذين أدمنوا التشرّد والتجول على حواف المدن، وذهبوا إلى خسارة كل شيء مع سبق الإصرار. هم أنصاف مشاريع مهما حاول الآخرون أن ينسجوا حولهم أساطير القول، وهذا سر من أسرار الأدب العراقي، فالعراق لفرط اضطراب أيامه، ولد مثقفين تركوا أثراً من موهبة تعاني عوق الاكتمال، ولكنها تفصح عن نفسها بما لا يطال الشك قدرتها. وهكذا ينتظر جمهورها على الأبواب، لينسج اسطورته الخاصة به، الأسطورة التي تبقى تنتظر الولادة حتى بعد موت صاحبها. لعل العراق وهو يكرر حكايات الغائبين، منذ تموز الذي بحثت عنه عشتار في قصائد السياب، أنتج تقاليد أدبية تناسب حالة الغياب والحضور المواربة في تاريخه، وسرگون من نماذجها.
عاش عمراً في أمريكا، وما عشق منها مثل الأوتستراد، كما قال لكاتبة هذه السطور في مقابلة له، فالسرعة التي تسير بها حافلته وهو يقطع مسافات طويلة هي على نحو ما ، حالة هروب من العالم، المضي إلى ممالك هي في الرأس قبل أن يدركها النظر. وهكذا كان يرحل ويقيم في أمريكا، ولكنه بقي يستحضر حلم العودة إلى كركوك، ومطارح التشرد ببغداد. كنت أقول له لماذا تستعذب تدمير ذاتك بفكرة الرحيل والفراق، يجيب، انها لا تعود إلى رومانسية تسكنني، ولكنها الحقيقة الوحيدة في حياتي. وكأن كل شيء وهم في حياته.
وهكذا يبقى يجيد تفسير كآبته المزمنة، المنخوليا التي تعصف به وبعدد لا بأس به من كتّاب العراق. ولو كان مثل صديقه الذي بقي بكركوك جليل القيسي لاستحضر مدن الأرض ولم يكتب عن المكان الذي هو فيه. أنه تبرير لوجود يعذب صاحبه: “وأنا نائم أحلم أنني أتعثر برجل نائم تحت جبل – وأركله لاوقظه برفق أولاً ثم بتهور وصراخ حتى يستيقظ ، – ويوقظني – وأحياناً يكون الفرق الوحيد بين الحياة والنوم – وهو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد – بين أن تستيقظ بنفسك، أو أن توقظَ، بواسطة حذاء – حتى إذا لم يكن هناك جبل حتى إذا لم يكن هناك”.. يكتب نص “حانة الكلب” بعد عودته إلى الكتابة، فقد انقطت عنه العربية عامين أو أكثر، سافر فيها واشتغل في معامل وأماكن نائية، اشترى قاموساً عربياً كي يظل رأسه يحفظ الكلمات. وهو يقود الحافلة في شارع يمتد بين سان فرنسيسكو ولوس انجلس، قرأ عنواناً لمكان مر به الرهبان المكسيكيون “حانة الكلب”، فتخيل انه اقترب من سر أمريكا التي تقف بين القداسة والكلبية، وهكذا يكتب نصه ممسكاً بجلال الدين الرومي الذي أضحى أيقونة في السبعينات الأمريكية. ولكنه لم يكن سوى حلية في جيد تلك القصيدة التي تقترب من التصوير السوريالي للحدث الذي حلم في يقظته. هو تعبير عن الحمى التي يصورها على انها حياة :
يحلم أن فرقة مدربة من الأعداء
تهيل الصحراء بالرفش وطوال الليل
في قصبته الهوائية
وهكذا لم يكن سركون على مبعدة من حياته الشخصية ووقائعها : “حيث القصائد لا تحتاج إلى مجداف لتعبر بنا جميعاً إلى الضفة الأخرى”)..
القوة والكد الذي تكلم عنهما أدغار الآن بو، باعتبارهما الشرطين لإنجاز أي عمل عبقري، لم يكن يملكهما سرگون بولص، ولكنه ملك القدرة على العيش داخل الشعر لا خارجه، فلم تكن القصيدة مهنة له، ولكنها أشبه بقدر ومصير. ولم يفكر بكتابة مادة عن مفهومه للشعر، مثلما فعل الكثير من الشعراء، ولكنه دون غيره يحمل الكثير من الرؤي المهمة حوله..
بين الصحو والغيبوبة يكتب قصيدته، وهو لا يستجلبها من العدم، بل إن تجاربه الشخصية هي موضوعه، سواء كانت أحلاماً أو ذكريات. لا فرق “(لأن المعنى دائماً هناك يدخن صابراً في نهاية القصيدة”).
بعد أزيد من ثلاثة عقود في الكتابة، نشر أول ديوان له “الوصول إلى مدينة أين”، وهو تسجيل لأوديسا الذات حين تتجول في الغربة، يفتتحها بوصوله إلى الوطن، مثل عوليس بالضبط : أصل إلى وطني بعد أن عبرت/ نهراً يهبط فيه المنجمون بآلات فلكية صدئة/ مفتشين عن النجوم/ أو لا أصل إلى وطني/ بعد أن عبرت نهراً لا يهبط فيه أحد”. رحلاته في هذا الكتاب، مغامرة في البحث عن المكان المفقود، وعَوَدٌ بالزمن الرمزي الذي تنسجه الأساطير، وهي تسوية تجولت في رحابها لغة سرگون الثرة القوية المكثفة، وصوره التي تجمع الإشراقة إلى التفكر إلى لمسة الحكاية الشرقية. كأن الزمن في مكانه المفقود معضلة كما يقول:
(لأني خرجت من بلادي في مرحلة مبكرة، أصبح الزمن نوعاً من المعضلة كان عليّ أن أحلها، فالزمن يمضي والاحساس به يزداد. كان باعث التكثيف في كتابي الأول الرعب من الزمن، رعب من أن لا أتمكن من العودة). ديوانه الثالث (الأول والتالي) يدع فيه الشعر يمضي إلى بيان الحكاية. عودة الى ممارساته الأولى في القصة، حيث أصبح السرد في الشعر نفياً لكل توقيعات الرواد على التفعيلة، وانقطاعاً عن عالمهم المزين برومانسية الغناء. وسركون الذي نشر كتبه في رحلة عكسية لتواريخها، كان يعود دائماً إلى بيئته المسيحية الأولى حيث القصص تتناثر في أفواه العجائز وفكاهات الشماس وراعي الكنيسة، والأب الذي يحمل له سركون الطفل فانوسه في ليل الذئاب.
يقول سركون اليوم بصوته الواهن: سأذهب بعد قليل إلى بيتي. وعندما أسأله: أي بيت تقصد يقول إلى بيتي، أي “نعم” إلى بيتي. هو ينتظر أن يرحل مثلما انتظر كل عمره، ولكنه رحل، ولم يضع فاصلته الأخيرة على كتابه المفتوح على إبداع لا حد له.
شارك مع أصدقائك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *