حفريات الشاعر وأبحاثه

شارك مع أصدقائك

Loading

شاكر لعيبي

يكتب جُلّ الشعراء العرب المعاصرين المادة النقدية والفكرية والبحثية التي تقع في إطار نمط معرفيّ ليس من طبيعة الشعر بالضرورة. بعضنا يكتب يومياً أو دورياً في الصحافة اليومية أو الشهرية في السياسة والاقتصاد والمعارف العامة. الجميع يخاف حدّ الذعر من صفة (الباحث) أو (الناقد)، ويتحاشى حضورها جوار الصفة “الشعرية”، كأنها نوع من النقيصة، وكأنها ستقلل من الطاقة الشعرية الفوّارة ومجد الشاعر. إنها طويلة ومدهشة قائمة الشعراء الذين يكتبون بحوثا ونقوداً ودراسات. ويمكن أن تبدأ بعلي أحمد سعيد (أدونيس) الذي أنجز بحثاً أكاديمياً محضاً صدر بثلاثة أجزاء عنوانه “الثابت والمتحول” ثم أصدر العديد من البحوث عن الشعرية العربية و”الصوفية والسوريالية” و”لنص القرآني وآفاق الكتابة”، لتمر بمقالات عباس بيضون النقدية الجادة منذ أكثر من عشرين عاماً التي يمكن أن تخرج بمجلد نقدي- تأملي ضخم الحجم، ودراسات بول شاوول التوثيقية عن المسرح وغيره، ودراسات فوزي كريم الدقيقة عن تاريخ القصة العراقية فيما سبق، والموسيقى الكلاسيكية فيما بعد، وبينهما تتبعه المنهجي لمسارات الشعر العربي القديم والحديث الصادر بكتب عدة، ودراسة شوقي عبد الأمير “مجلة لقمان” عن النثر الجاهلي، وملاحظات صلاح عبد الصبور في “قراءة جديدة لشعرنا القديم” التي لا تقع في التأمل قدر وقوعها في التقصّي العقلانيّ. وكتابات التونسي المنصف الوهايبيّ البحثية التي تنتقي مصطلحاتها. في العراق كذلك ثمة زاهر الجيزاني ودراساته عن تاريخ العراق السياسي وخزعل الماجدي وبحوثه عن إرث بلاد الرافدين, وفي المغرب محمد بنيس وما نعرف جميعاً عن دراساته الجادة عن الشعرية العربية بمجلدات عدة.
ولو أننا عرجنا قليلا إلى المجال التشكيليّ لرأينا قامة بحثية صافية مثل الرسام شاكر حسن السعيد الذي يعرف القاصي والداني انشغاله بالكتابة الأكاديمية التي تضعه في مصاف مؤرخ جامعيّ لتاريخ الحركة التشكيلية العراقية المعاصرة. ولتوقفنا أمام الباحث التشكيلي بلند الحيدري كذلك. لو أننا التفتنا أيضاً صوب أبرز شعراء الفرنسية الأحياء لوجدناهم من الأساتذة الجامعيين الذين يقدّمون البحث الدقيق تلو البحث في الدوريات المحكّمة. ولو أننا انصرفنا إلى ماضي الشعر العربي فلن يُستطاع إقناعنا بشأن المتنبي وأبي العلاء على الأقل، فكلاهما من كبار العارفين بالفلسفة اليونانية والفكر المعاصر لهما، وقد اغترفا منه.
في ثقافتنا العربية من العيب، على ما يبدو، أن يوصم الشاعر بالباحث. من الممكن والمستحسن أن يكون مترجماً للشعر وحده، على أساس أن ترجمته للشعر توطِّن مرجعياته الشعرية المقطّرة تقطيراً في أذهان قرائه، كأن مرجعيات الشعر لا تقع أيضاً في الرواية والموسيقى والفكر والفلسفة والتاريخ. من العورة أن يوصف الشاعر العربي بالأكاديمي، لأن الروح الأكاديمي في العالم العربي رديفٌ للخوف من المغامرة المعرفية، وصنوٌ للتحجّر الذهنيّ المزمن، ولصيقٌ بالسير على نهج الأصول الجامدة. المشكلة والحالة هذه تقع في معنى الأكاديمية وموطنها الأصلي: الجامعة التي تصير في العالم العربي نقيضاً للبحث التجريبيّ والتأمل- وإنْ بأدوات أخرى- الذي هو جوهر الشعر الصافي أيضاً.
تزامنت المغامرتان الشعرية والبحثية لدى العديد من الشعراء، كالرصافي منذ وقت مبكر ومن دون أدنى المخاوف. لعل دلالة المخاوف الراهنة تقع قليلاً في عدم الثقة بالذات الشاعرة، وكذلك القناعة بأن لا علاقة للشعر بالمعرفة.
الخوف من فكرة الباحث تقدِّم صورةً للشاعر العربي المعاصر من طينة بائدة، إذا لم نقل رومانسية، مائعة. إنها ملامح قديمة لصورة الفنان ناسكاً معتزلاً، منهمكاً بما يَعْرف فحسب، مصلّياً، رائياً، غريب الأطوار، ينطق الحكمة عن هوى، تائهاً، عربيداً، صوفياً صافياً أو سوريالاً. لم نبرهن حتى اليوم أننا من نطفة مشتقة من تلك الطينة، إذا لم يُبَرْهَنُ لنا على نقيضٍ تام للرعوية وللهيام بالطبيعي: لطالما عرفنا كراهية التوحُّد لدى جمهرة واسعة عبر علاقات عريضة محسوبة رياضياً. وخلافا لممارسات المتقشفين يذهب هذا الكثير لصالح التبذل والانصراف إلى الدعوات حيص بيص والحضور بكل الطرق، بل أنه خلافاً لحكمة الشاعر المفترضَة يُعْلَن عن شبيهٍ لها.
المغامرة واحدة بالنسبة للشاعر في الحقلين الشعري والبحثي، سوى بفارق واحد: أن البحث يتطلب جهداً أكبر من الموهبة الغريزية المزعومة، الرعوية.، أكثر قليلاً من كتابة النص الشعريّ بضربةِ نردٍ. الجوهر واحدٌ طالما يقوم على مغامرة العقل وتلافيفه.
المشكلة في العالم العربي هي أن الكثير من الشعراء الإشكاليين المعروفين مقروئين بصفتهم باحثين رصينين (أو متأملين أو ناثرين بارعين أو مطلقي أفكار مثيرة) وليس بصفتهم نصوصاً شعرية راسخة. قد ينطبق الأمر على أسماء قد لا نتوقعها ممن ذكرناهم للتو. إن حضورهم في الذاكرة الثقافية العربية يتم عبر الطريق (اللا شعري) بالأحرى. خذ مثلا أدونيس: لقد ظل “الثابت والمتحول” محور الحديث عنه بل عنوان شهرته عقوداً طوالاً وقام عليه جزء مهم من شعريته. في حين أن مجد الشعراء المحررين الثقافيين في الصحافة العربية المركزية قام في جزء حيويّ منه على تودّد الراغبين بالنشر لديهم وليس انطلاقا من نصوصهم الشعرية بالضرورة. هذا لا يقلل من شعريتهم لكن يثير الشكوك على مجمل الممارسة الثقافية، الشعرية والنثرية والنقدية. ولو صح هذا الأمر فإن هناك شيئاً مريباً في موضع محدّد، وهناك خيرٌ منا لمعالجته.
استطراد:
ولنتذكر كتاب “الرسالة الحاتمية فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة” من تحقيق فؤاد افرام البستاني عن دار المشرق سنة 1931.

 

شارك مع أصدقائك